في الكلام التالي سأتحدث عن الشعر من خلال تذوقي لقصيدة من القصائد محاولا توضيح ماهية الشعر كما أعرفه من خلال أبيات هذه القصيدة فلعلي أوفق لهذا الأمر القصيدة هي قصيدة الشاعر الكبير ابراهيم ناجي أنوار المدينة : بسم الله نبتدي ضحكت لعيني المصابيح التي تعلو رؤوس الليل كالتيجان و رأيت أنوار المدينة بعدما طال المسير و كلت القدمان و حسبت أن طاب القرار لمتعب في ظل تحنان وركن أمان فإذا المدينة كالضباب تبخرت و تكشفت لي عن كذوب أماني قدر جرى لم يجر في الحسبان لا أنت ظالمة ولا أنا جاني هذه القصيدة الصغيرة أو الأبيات التي شكلت قصيدة أنوارا لمدينة للشاعر الكبير ابراهيم ناجي هي في ظني أصدق تمثيل للقصيدة الحقيقية ربما أنا متصل بها ذاتا و روحا و وجدانا لأسباب عديدة لا مجال لسردها الآن و متصل بها أيضا علميا حيث أنها كانت مقرر مادة علم اللغة و مادة علم اللغة هي مادة لا علاقة لها بالأدب حسب المفهوم القديم للأدب و لعلومه كل ما يهمني أن أقول أن دراستي الأولى لها في علم اللغة انصبت على جزيئاتها اللغوية حيث أن علم اللغة هو علم يهتم بصوتيات اللغة و مبناها و أصلها كأساس لدراستها لكن اليوم سأدرس معكم هذه القصيدة كأساس لبناء قصيدة . ما هو المطلوب لتكتب شعرا ? أول شيء يجب أن يتوفر فيك أو فيكِ لتكتب شعرا هو أن يكون لديك ما تقوله لديك فكرة و إحساسا بشيء ما تريد أن تتحدث عنه و قد يقول لي أحد ما و هل يعقل أن هناك من يريد أن يقول شعرا و ليس لديه ما يقول و أقول له نعم هناك الكثيرون الذين يطمحون أن يقال عنهم شعراء يكتبون سطورا متراصة و ربما بها الكثير من الصور وا لكلام الجميل لكن ليس ما يكتبونه شعرا بأي حال من الأحوال و لن يكون . لنعد للبداية لديك ما تقوله تحب أو تشتاق أو تشعر بالظلم أو تشعر بالسعادة و جمال الدنيا و تريد أن تعبر عن ذلك هنا نجد أن لدينا شيئا هاما يجب أن يتوفر فيك لتكتب قصيدة ما هو ? كيف ستقول ما تحس به و كيف توصله للقارئ هل يكفي أن تقول أنا أحب و أن تصرخ بالآلام و تملأ العالم رعدا بصوت المـتألم أو بصرخات العشاق و المجذوبين لا ليس هكذا و إلا لكان كل سكان الأرض شعراء فكلهم يحب و كلهم يتألم و كلهم يصرخون أحبك يا فلانة و أعشقك يا فلانة و يا ألله كم أكابد آلاما و أعاني مرارات , لابد من طريقة ما لكي تقول ما تريد بأسلوب يختلف إذ أن الشعر هو الأسلوب الجميل و المختلف لقول ما هو عادي . إذا وصلنا لحقيقتين و هما أن يكون لديك ما تريد أن تقوله و أن تعرف و تحدد كيف ستقوله بقي لدينا أشياء مثلا كيف ستبدأ القول و كيف ستنتهي هذان شيئان هامان جدا لكي يكون ما ستقوله متقبلا أولا و يجذب القارئ ليكمل ما بدأه من كتاباتك و حين يصل للنهاية يغلب عليه انطباع بالاستمتاع يكفي إلى هذا الحد حتى نبدأ مع قصيدة أنوار المدينة و نحللها و نصل معها لحقيقة الشعر قال : ضحكت لعيني المصابيح التي تعلو رؤوس الليل كالتيجان ِ ضحكت إذاً الرجل في حال يدعو للتفاؤل أو أنه يريد أن يتفاءل حيث أن عينيه تريان المصابيح ضاحكة و مبشرة له بشيء و هي كأنها من ابتهاج روحي تظهر على مشارف الليل كأنها التيجان . استهل الشاعر القصيدة بأن قال لك عن نفسه شيء بسيطا أنه سعيد لأنه يرى المصابيح تضحك في ظلمة هذا الليل و تركنا الشاعر نتساءل لماذا هو سعيد و ما هو موقعه من العالم ربما هو أنبأنا عن الزمن الذي يمشي فيه و لكن هل هو زمن أم أنه حالة نفس ترى الليل و تبحث فيه عن مصابيح إضاءة . الشاعر هنا بدأ بالتشويق لكي يجذبنا أن نكمل معه لنتعرف عن هذا العالم الذي يمشي فيه و لنكمل معه . قال : و رأيت أنوار المدينة بعدما طال المسير و كلت القدمان ِِ بدأت معالم عالمة تبدو شيئا ما إنه سائر طال به المسير و تعب من السير و ها قد بدت له المدينة إنه يمشي لغاية ما إنها مدينة و قد حل الليل و معه التعب من السير لقد وصل إلى مستقر سوف يصل إلى المدينة بعد قليل لتقر روحه و يرتاح جسده نستطيع الآن أن نفهم لما تضحك المصابيح لأنه يريدها أن تضحك لأنه متعب و يريد أن يستقبله أحد ما بابتسامة تحط عن كاهلة التعب و تريحه من العناء الذي يسير فيه و الذي أرهقه جسما وروحا قال : و حسبت أن طاب القرار لمتعب في ظل تحنان و ركن أمانِ كلمة حسبت هذه تنذر بنذير أنه غير موقن من أنه استقر و سيرتاح لعل نفسه التي أضناها المسير لم تعد تثق في شيء إن العقل الذاهل من التعب لا يلومه أحد لو ظن كل شيء على غير أصله , انظروا معي لكلمة تحنان توحي بتردد الحنان ومتابعة فهو يريد حنانا لا يزول يستمر طول الوقت كأن كمية التعب لن يوازيها إلا نبع حنان لا ينضب , إن هذا السائر المضنى المسكين أيضا خائف جدا إن كمية ما يعانيه تزداد كلما توغلنا مع القصيدة كلمة فكلمة هل يا ترى طاب القرار للمتعب و وجد الحنان الذي يسير إليه و هل وجد ركن الأمان الذي ينشده لروحه الممزقة . قال : فإذا المدينة كالضباب تبخرت و تكشفت لي عن كذوب أماني يا الله كم هو مؤلم أن تجري وراء سراب و أن يظل السراب يجرك وراءه مستغلا تعب روحك و لكن روحك لا تزداد إلا تمزقا و ألما حين تفتش عن النور الذي رأيته ينسرب من بين يديك كخيط من دخان و يتبخر كالضباب المدينة التي رآها السائر المسكين ما كانت ألا ضبابا و تكشفت له انخلع عنها ثوب الأماني أمانيه هو إنها لم تكن سوى خياله المتعب و أمانيه المتمددة على تراب الألم صورت له السراب مدينة و هيأت له أضواء عشيت بها عيناه عن الحقيقة فظل يمشي حتى وصل إلى السراب فلم يجده تبخر إذا لم يكن هناك مدينة و لا أضواء كان هناك الحلم الذي يجذبه نحو مستقر غير موجود و نحو نور لم تشرق به شمس يوم بعد . قال : قدر جرى لم يجري في الحسبان لا أنت ظالمة و لا أنا جاني إنه يناشدها أيا كانت حبيبته بلاده أحلامه روحه الممزقة يا هي التي أناديها و أسعى إليها لا تلومي نفسك فإنه القدر جرى و لم يجر في حسباننا بما جرى به لم نظن أن يصل بنا الحال إلى ما نحن عليه أنا سائر في صحارى السراب متعب و محطم ليس ذبنك ما كان فأنت لست بظالمة و أنا ما جنيت شيئا . تلك كانت القصيدة إنك تستطيع أن تلخص العالم في جمل قليلة و تكتب في خمسة أبيات ما لا تستطيع أن تضمه كتب عدة كان لدى الشاعر ما أراد قوله و هو أن ينقل لنا هذه الأحاسيس و المشاعر ما بين حب و ألم و تعب روح و جري وراء سراب لم يقل لنا هذا الكلام في صورة مباشرة بل حملنا على جناح الشعر فتألم و نحن سمعنا صوت آلامه و حدثنا عن حبيبته و رأيناهما معا في ذكرياته التي قرأنا ما بين السطور و حدثنا عن قصة حب ضائع لم تنته بالنهاية السعيدة و حدثنا أنه لا يزال يسير في صحراء الآلام و أن الأقدار سارت بعكس ما كان يريد و تريد حبيبته فما ظلمت هي و لا جنى هو . القصيدة على بحر الكامل و هو بحر موسيقي لكن هنا لعلي أقول أني لم ألحظ موسيقاه الصاخبة التي أجدها عند بعض الشعراء من غيره لأن الكلام لم يحتمل موسيقي السرور التي قد تقلب جو القصيدة من جو تعلوه سحابة حزن إلى جو حفل صاخب . أستطيع القول أن خمسة أبيات عندي أحسن من آلاف الأبيات و مئات الآلاف من قصائد النثر الممجوج و عشرات الدواوين التي ما فيها كلمة تستحق القراءة . أرجو أن أكون قد هديتكم لبعض المعرفة عن الشعر و لعلي أتكلم يوما آخر عن الشعر .